ملخص المقال
عاش أبو حنيفة في مرحلة تاريخية مضطربة ولذلك رفض أن يتقلد مناصب القضاء للأمويين والعباسيين لكن الحكام كانوا يريدونه داعمًا لهم؛ وهذا أوقعه في المحن.
سأل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»[1]، ومن ألوان هذا البلاء الاختلاف مع الأمراء والخلفاء وكان أبو حنيفة في مرحلة تاريخية دقيقة ومضطربة، حيث ولد سنة 80 هجرية، فلما بلغ أربعين سنة، وصارت له الفتيا والدرس، كانت الدولة الأموية حينذاك في أخريات عهدها، ودخلت في طور الضعف، وظهرت بوادر فتنة الدولة العباسية.
وقد تزامن هذا مع خروج زيد بن علي على الدولة الأموية الذي بالرغم من فضله كره الحكم الأموي، وبعد قيام الدولة العباسية ظن أنها قامت لتحقِّق العدل، وتنصف آل البيت، فإذا بهم يتزايدون في الظلم، ويتساهلون في الدماء، فكرهها أكثر مما كره الحكم الأموي.
من هنا كره أبو حنيفة تقلُّد المناصب لهم، وكره عطاياهم، ولم يرغب في الدخول عليهم، ولكنه لم يفكِّر في الخروج عليهم، ولم يثبت أنه دعم الخارجين؛ سواء زيد بن علي في زمن الأمويين، أو محمد النفس الزكية في زمن العباسيين، وكل ما جاء بدعمه لهم هو من أسانيد واهية، ولو دعم في السِّرّ ما جاز له، ولو رأى الخروج أفضل ولم يأمر الناس قصَّر.
لكن الحكام كانوا يريدونه داعمًا لهم لا منعزلًا عنهم؛ لأنه برفضه الولاية لهم كأنه بغَّضهم للناس، أما أبو حنيفة فكان يرفض أن يُستخدم أداة يقود الناس إلى ظلم أو مخالفة شرعية،
وهذا دفعه إلى رفض القضاء للأمويين وكذا للعباسيين، وهذا أوقعه في المحن!
محنة أبي حنيفة في زمن الأمويين:
قال يحيى بن أَكْثَم: سَمِعت ابْن دَاوُد يَقُول أَرَادَ ابْن هُبَيْرَة أبا حنيفَة على قَضَاء الْكُوفَة فَأبى وَامْتنع، فَحلف ابْن هُبَيْرَة إِن هُوَ لم يفعل ليضربنه بالسياط على رَأسه، فَقيل لأبي حنيفَة، فَقَالَ: ضَرْبَة لي فِي الدُّنْيَا أسهل عَليَّ من مَقَامِع الْحَدِيد فِي الْآخِرَة، وَالله لَا فعلت وَلَو قتلني. فَحكي قَوْله لِابْنِ هُبَيْرَة، فَقَالَ: بلغ من قدره أن يُعَارض يَمِيني بِيَمِينِهِ. فَدَعَا فَقَالَ: شفاها وَحلف لَهُ إِن لم يل ليضربن على رَأسه حَتَّى يَمُوت. فَقَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: هِيَ موتَة وَاحِدَة. فَأمر بِهِ فَضرب عشْرين سَوْطًا على رَأسه. فَقَالَ أبو حنيفَة: اذكر مقامك بَين يَدي الله فإنه أذلّ من مقَامي بَين يَديك وَلَا تهددني فَإنِّي أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله سَائِلك عني حَيْثُ لَا يقبل مِنْك جَوَابًا إِلَّا بِالْحَقِّ. فَأَوْمأ إِلَى الجلاد أن أمسك. وَبَات أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي السجْن فَأصْبح وَقد انتفخ وَجهه وَرَأسه من الضَّرْب، فَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: إِنِّي قد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وَهُوَ يَقُول لي: أما تخَاف الله تضرب رجلًا من أمتِي بِلَا جرم وتهدده. فَأرْسل إِلَيْهِ فَأخْرجهُ واستحله[2].
وعن يحيى بن عبد الحميد قال: كان الإمام يُخْرَجُ كل يوم من السجن، فيُضْرَب ليدخل القضاء فيأبى فلما ضُرِب رأسُه، وأثَّرَ ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: "إذا رأته أمي بكت، واغتمت، وما عليَّ شيء أشدّ من غَمِّ أمي[3].
ولما خرج من السجن ذهب إلى مكة، واستقر بها إلى آخر عهد الدولة الأموية، ثم عاد إلى الكوفة بعد قيام العباسيين.
محنة أبي حنيفة في زمن العباسيين:
كان أبو جعفر المنصور جبارًا، وحاول مرارًا مع أبي حنيفة أن يكون له قاضيًا: وَعَنْ مُغِيْثِ بنِ بُدَيْلٍ، قَالَ: دَعَا المَنْصُوْرُ أَبَا حَنِيْفَةَ إِلَى القَضَاءِ، فَامْتَنَعَ، فَقَالَ: أَتَرغَبُ عَمَّا نَحْنُ فِيْهِ؟ فَقَالَ: لاَ أَصْلُحُ. قَالَ: كَذَبتَ. قَالَ: فَقَدْ حَكَمَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ عَلَيَّ أَنِّي لاَ أَصْلُحُ، فَإِنْ كُنْتُ كَاذِباً، فَلاَ أَصلُحُ، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقاً، فَقَدْ أَخْبَرتُكُم أَنِّي لاَ أَصلُحُ. فَحَبَسَهُ.
وَرَوَى نَحْوَهَا: إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الرَّبِيْعِ الحَاجِبِ، وَفِيْهَا: قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ: وَاللهِ مَا أَنَا بِمَأْمُوْنِ الرِّضَى، فَكَيْفَ أَكُوْنُ مَأْمُوْنَ الغَضَبِ، فَلاَ أَصلُحُ لِذَلِكَ. قَالَ المَنْصُوْرُ: كَذَبتَ، بَلْ تَصلُحُ. فَقَالَ: كَيْفَ يَحِلُّ أَنْ تُوَلِّيَ مَنْ يَكْذِبُ؟
وَكَانَ يُخْرَجُ كُلَّ يَوْمٍ فَيُضْرَبُ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ وَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاقِ، ثُمَّ ضُرِبَ ضَرْبًا مُوجِعًا حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى عَقِبِهِ وَنُودِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ ضُيِّقَ عَلَيْهِ تَضْيِيقًا شَدِيدًا حَتَّى فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَبَكَى وَأَكَّدَ الدُّعَاءَ، فَتُوُفِّيَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ.
وأوصى أن يدفن بمقابر الخيزران (أم الرشيد) بالجانب الشرقي؛ لأن أرضها طيبة غير مغصوبة، ولما بلغ المنصور ذلك قال: يعذر فيك حيًّا وميتًا[4].
لأن أرض بغداد من أرض السواد، وهي وقف على المسلمين[5].
[1] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2398) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7481)، وأحمد (1481)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والدارمي، 1987 م (2783)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن والحديث صحيح، وصحَّحه الألباني، 1995 م (143).
[2] الصَّيْمَري (٣٥١ - ٤٣٦ هـ = ٩٦٢ - ١٠٤٥ م): «أخبار أبي حنيفة وأصحابه» (ص68).
[3] «الأثمار الجنية في طبقات الحنفية» (1/ 206 ط ديوان الوقف السني).
[4] الخيرات الحسان ص93.
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك